كيف تُعيد الحوسبة المكانية والأجهزة القابلة للارتداء تشكيل مستقبل الذكاء الاصطناعي؟

يشهد عالمنا اليوم تسارعًا غير مسبوق في وتيرة الابتكار التكنولوجي، وفي صميم هذا التسارع يقف الذكاء الاصطناعي على أعتاب طفرة نوعية قادمة، من المتوقع أن تعيد تعريف إمكانياته وتطبيقاته. ولكن اللافت هذه المرة أن هذه القفزة النوعية المرتقبة لن تُبنى على التطور في الخوارزميات ونماذج التعلم الآلي المعقدة فحسب، بل ستُدفع بقوة من خلال تطورات موازية وجوهرية في عالم الأجهزة.
فمع تسارع وتيرة اندماج العالمين، وهما: العالم الرقمي الافتراضي، الذي تسكنه الخوارزميات والبيانات، والعالم الواقعي المادي الذي نعيش فيه، تُبشّر التقنيات المتقدمة مثل: الحوسبة المكانية، والواقع الممتد (XR)، والأجهزة القابلة للارتداء المدعومة بالذكاء الاصطناعي، بعصر جديد ونموذج حوسبة مغاير كليًا، سيعيد تعريف التفاعل البشري مع الآلات.
إذ لم يَعد إدماج الذكاء الاصطناعي في الأجهزة مجرد توقعات مستقبلية بعيدة؛ بل أصبح حقيقة تتشكل في الوقت الحالي، وتؤكدها تحركات إستراتيجية تنفذها أهم الشركات في المجال، فعلى سبيل المثال، تكشف طلبات العلامات التجارية الحديثة التي قدمتها شركة (OpenAI)، عن اهتمامها بمنتجات تتجاوز البرمجيات لتشمل نطاقًا واسعًا من الأجهزة، مثل: الروبوتات البشرية المتطورة، ونظارات الواقع المعزز والواقع الافتراضي، بالإضافة إلى الأجهزة الشخصية الذكية مثل الساعات الذكية والمجوهرات الذكية. كما يؤكد استثمار شركة (ميتا) Meta في النظارات الذكية، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي هذا التوجه بقوة.
تجاوز الشاشات.. انتقال الذكاء الاصطناعي إلى العالم المادي:
لا يقتصر هذا التطور الجذري على مجرد توسيع نطاق وصول تطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى شرائح جديدة من المستخدمين، بل يتعلق بتحول جوهري في طبيعة تفاعلنا مع الذكاء الاصطناعي، إذ ينتقل من كونه مجرد أداة حاسوبية قوية حبيسة داخل شاشات الحواسيب والهواتف التي تتطلب منا إدخال المعلومات واستقبالها عبر واجهات تقليدية، إلى التفاعل معه ككيان متجسد، كشريك قادر على الإدراك والفهم والتفاعل بنحو مباشر وطبيعي ومستمر مع العالم المادي المحيط بنا لحظيًا.
ولتحقيق هذا التجسيد وهذا التفاعل المباشر لا يكفي مجرد وجود الذكاء الاصطناعي القوي، الذي دُرب على كميات ضخمة من البيانات، بل يتطلب الأمر بنية تحتية جديدة تمامًا، تشمل أجهزة متخصصة ومبتكرة قادرة على إدراك البيئة المعقدة والمتغيرة وتفسيرها لحظيًا بدقة غير مسبوقة.
ويعني ذلك الحاجة إلى مجموعة متنوعة وغير مسبوقة من أجهزة الاستشعار المتقدمة، بالإضافة إلى واجهات تفاعلية ثورية تتجاوز القيود المادية والإجرائية للوحات المفاتيح التقليدية والشاشات اللمسية، لتعتمد بنحو أكبر على الإيماءات الطبيعية، وتتبع حركة العين ونظرات المستخدم، والتفاعل الصوتي المتقدم والمراعي للسياق، وحتى التفاعل عبر (ردود الفعل اللمسية) Haptic feedback.
ويدفع هذا التحول نحو الذكاء الاصطناعي المتجسد الباب أمام فئة جديدة كليًا من التطبيقات والخبرات، التي كانت تُعدّ حتى وقت قريب جزءًا من قصص الخيال العلمي، ولكن ما مدى السرعة، التي سيحدث بها هذا الاندماج التحولي، وكيف سيعيد هذا التحول صياغة مستقبل التفاعل بين البشر والآلات؟
صعود الحوسبة المكانية.. إدماج العالمين الرقمي والمادي:
في قلب هذا النموذج الجديد تكمن الحوسبة المكانية (Spatial Computing) كتقنية محورية وأساسية، وهي نموذج حوسبة ناشئ يتمحور حول فهم الأبعاد الثلاثية المحيطة بنا والتفاعل معها بذكاء، وتحقق الحوسبة المكانية هذا الهدف عبر الدمج بين قدرات الذكاء الاصطناعي المتقدمة، والرؤية الحاسوبية لتفسير المشاهد المرئية لحظيًا ومجموعة متنوعة من تقنيات الاستشعار المتطورة لجمع البيانات البيئية الدقيقة، وذلك لإنشاء واجهات تفاعلية طبيعية وسلسة تربط بين العالمين، وهما: العالم الواقعي، الذي نتحرك ونعيش فيه من جهة، والعالم الرقمي الافتراضي، الذي يحتوي على المعلومات والتطبيقات من جهة أخرى.
وعلى عكس نماذج الحوسبة التقليدية، التي تتطلب من الأشخاص التكيف مع حدود وإمكانيات الأجهزة الثابتة أو المتنقلة وواجهاتها مثل الشاشات ولوحات المفاتيح، تسمح الحوسبة المكانية للآلات بفهم بيئات البشر ونواياهم من خلال الوعي المكاني.
لذلك يُعدّ التحكم في تصميم هذه الواجهة التفاعلية الجديدة وتطويرها لتكون بديهية وسهلة الاستخدام أمرًا مهمًا، فمع تحوّل الأجهزة المتكاملة جوهريًا مع الذكاء الاصطناعي إلى جزء أساسي في حياتنا اليومية، فإن الطريقة التي سيتفاعل بها الأشخاص مع هذه الأنظمة الذكية المتجسدة والموزعة هي التي ستُحدد في النهاية مدى فائدة هذه الأنظمة في مختلف جوانب حياتنا.
كما ستكون الشركات التي تقود جهود إدماج الذكاء الاصطناعي في الأجهزة بطريقة مبتكرة وفعالة، هي التي ستضع المعايير الجديدة للتجارة الإلكترونية، والاتصالات الشخصية والمهنية، والتفاعل اليومي للبشر مع التكنولوجيا في العقود القادمة.
وهنا تحديدًا تكمن الأهمية الإستراتيجية لتقنيات الواقع الممتد والأجهزة القابلة للارتداء، إذ يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى ما يُعرف باسم الذكاء المكاني – وهو عبارة عن الوعي والفهم العميق للمساحة المادية المحيطة – لتحقيق أقصى إمكاناته.
وتتيح نظارات الواقع المعزز المتطورة، ونظارات الواقع الافتراضي الذكية المدعومة بالذكاء الاصطناعي، والخواتم أو الساعات الذكية المزودة بقدرات استشعارية متقدمة للذكاء الاصطناعي تفسير الإيماءات البشرية الطبيعية، وحركات الجسم الدقيقة، والخصائص الفيزيائية للبيئات المحيطة بنا بطريقة أكثر سلاسة وبديهية.
وقد لخصت كريستي وولسي، الرئيسة العالمية لقسم الواقع الممتد والحوسبة المكانية في مجموعة بوسطن الاستشارية (BCG)، هذا التحول بقولها: “لقد دفعنا التطور السريع للذكاء الاصطناعي إلى البحث عن جهاز جديد يمكننا من خلاله نقل التعاون القائم على الذكاء الاصطناعي من الشاشة إلى التفاعل المباشر مع العالم. وتوفر أجهزة الواقع الممتد، التي لا تتطلب استخدام اليدين هذه الإمكانية. بالإضافة إلى ذلك، يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى كميات ضخمة من البيانات باستمرار، وتستطيع الكاميرات وأجهزة استشعار المواقع ومدخلات الصوت المتوفرة في أجهزة الواقع الممتد تلبية هذه الحاجة المتزايدة بفعالية”.
ويجعل هذا التحول الجذري في الأجهزة الوصول إلى الذكاء الاصطناعي أكثر سهولة، كما يجعله أكثر اندماجًا في حياتنا اليومية، فلم يَعد مجرد أداة نستخدمها عبر الشاشات، بل أصبح رفيقًا ذكيًا يتفاعل معنا في العالم الحقيقي.
صعود وكلاء الذكاء الاصطناعي:
أكد جنسن هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، خلال كلمته في (CES 2025)، أن التحول من الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى مفهوم وكلاء الذكاء الاصطناعي يمثل نقطة تحول حاسمة نحو ظهور ما يُعرف بالذكاء الاصطناعي المتجسد.
وسيعتمد وكلاء الذكاء الاصطناعي – وهم عبارة عن أنظمة ذكية قادرة على التصرف بنحو مستقل واتخاذ قرارات لحظية بناءً على إدراكها للبيئة – بنحو كبير على الأجهزة المكانية المتقدمة لكي يعملوا بفعالية.
وسواء كان هؤلاء الوكلاء مدمجين في نظارات ذكية متطورة، أو متجسدين في صورة روبوتات بشرية متطورة، أو كانوا جزءًا من أجهزة قابلة للارتداء ذكية، فإنهم سيراقبون البيئة المحيطة، ويتكيفون مع التغيرات، ويتعاونون مع البشر لتحقيق أهداف محددة.
وقد توقع المستثمر البارز فينود خوسلا، في مقابلة حديثة مع وكالة بلومبرغ الإخبارية، أن سوق الروبوتات البشرية قد يتجاوز في نهاية المطاف الحجم الضخم لصناعة السيارات العالمية بأكملها، ويجري بالفعل وضع اللبنات الأساسية لهذه الرؤية الطموحة في الأجهزة المدعومة الذكاء الاصطناعي التي نشهدها اليوم.
لذلك تصنع الابتكارات المتسارعة في مجال الأجهزة، والتقدم المذهل في تقنيات الحوسبة المكانية، والصعود التدريجي لوكلاء الذكاء الاصطناعي أساسًا جديدًا لكيفية تفاعلنا مع الآلات والمعلومات الرقمية، وتمثل هذه العوامل الثلاثة المحركات الرئيسية لتطور أجهزة الذكاء الاصطناعي في المستقبل القريب لتقودنا نحو عصر جديد من التفاعل بين الإنسان والآلة يتسم بالذكاء، البديهية، والتكامل غير المسبوق.
ولكن ما العوامل التي تقود نمو أجهزة الذكاء الاصطناعي؟
مع خروج الذكاء الاصطناعي من بيئة الحوسبة السحابية ودخوله إلى محيطنا المادي، سيتحدد شكله بناءً على كيفية إدماجه في بيئاتنا، وتتطلب هذه المرحلة الجديدة أكثر من مجرد خوارزميات متقدمة؛ إنها تحتاج إلى أجهزة يمكنها الاستشعار، ومعالجة البيانات، والاستجابة للتغيرات المحيطة، وهناك ثلاثة محركات رئيسية تدفع هذا النمو في أجهزة الذكاء الاصطناعي، وهي:
1- بيانات العالم الحقيقي وتدريب الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع:
تعتمد فعالية الذكاء الاصطناعي على جودة البيانات التي يتعلم منها، وستحتاج أنظمة الذكاء الاصطناعي في المستقبل إلى بيانات مكانية متنوعة تشمل: معلومات حول العمق المكاني، وحركة الأجسام، وتعرف الأشياء، ورسم خرائط تفصيلية للبيئات المحيطة.
وتُعدّ الأجهزة القابلة للارتداء، وأجهزة الواقع المعزز، والروبوتات أدوات ضرورية لجمع هذه البيانات لحظيًا، وعلى عكس مسارات البيانات التقليدية التي تعتمد على النصوص والصور الثابتة، تتيح هذه الأجهزة للذكاء الاصطناعي التعلم من التفاعل المباشر والحركي مع العالم من حوله، مما يحسن بنحو كبير من كيفية استجابته للسياقات الواقعية المتغيرة والظروف غير المتوقعة التي تميز العالم الحقيقي.
2- تجاوز الشاشات بواجهات تعتمد على الذكاء الاصطناعي:
تمثل المنصة الحاسوبية التالية حقبة جديدة من التفاعل الغامر، والمتعدد الوسائط، والقائم بنحو أساسي على الذكاء الاصطناعي، ونحن نتحرك بسرعة نحو تجاوز قيود الشاشات التقليدية مثل: الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية، والاتجاه نحو واجهات تبدو وكأنها امتدادات طبيعية لحواسنا وقدراتنا الإدراكية.
وتُعدّ نظارات (Ray-Ban) الذكية من ميتا مثالًا مبكرًا على هذا التحول، إذ يمكن للمستخدمين استخدامها لطرح أسئلة مباشرة على مساعد الذكاء الاصطناعي المدمج فيها، وتسجيل اللحظات المهمة من حياتهم، وتلقي دعم ذكي حسب السياق، كل ذلك دون الحاجة إلى النظر إلى شاشة منفصلة.
كما يلمح اهتمام شركة (OpenAI) المتزايد بتطوير نظارات الواقع المعزز إلى مستقبل واعد لن يكون مساعدو الذكاء الاصطناعي فيه محصورين داخل التطبيقات، بل سيكونون حاضرين على وجوهنا، وفي آذاننا، وعلى معاصمنا. إذ ستجعل هذه الأجهزة القابلة للارتداء الذكاء الاصطناعي أكثر حضورًا في محيطنا، وأكثر سهولة في الاستخدام، وحاضرًا دائمًا لمساعدتنا، ومدمجًا بسلاسة في كل من حياتنا العملية والشخصية.
3- صعود وكلاء الذكاء الاصطناعي:
يشهد الذكاء الاصطناعي تحولًا من كونه أداة غير فعالة إلى شريك متعاون وفاعل من خلال ظهور وكلاء الذكاء الاصطناعي، هؤلاء المساعدين الرقميين الذين يستطيعون إنجاز المهام المعقدة بنحو مستقل، واتخاذ القرارات، والمشاركة الفعالة بناءً على ما يرونه ويستشعرونه في البيئة المحيطة.
ويمكن لوكلاء الذكاء الاصطناعي المدمجون في الأجهزة القابلة للارتداء توجيه المستخدمين خلال المهام المعقدة، أو الاستجابة للإشارات البصرية الطبيعية، أو توقع احتياجات المستخدمين بناءً على تحليل سلوكهم وسياقهم الحالي.
فعلى سبيل المثال، يمكن للخواتم الذكية التقاط الإيماءات الدقيقة وتوفير ردود فعل لمسية للتفاعل الغامر، وقد تقدم نظارات الذكاء الاصطناعي تراكبات معلوماتية لحظية تتضمن الاتجاهات الملاحية، أو الترجمات اللغوية الفورية، أو الدعم اللازم لإكمال المهام المختلفة، ويمكن للساعات الذكية مراقبة المقاييس الحيوية للمستخدم وتقديم توصيات صحية استباقية بناءً على تحليل هذه البيانات.
وتشير هذه الابتكارات مجتمعة إلى صعود نوع جديد من الذكاء الاصطناعي، نوع يتصرف في العالم المادي، بدلًا من مجرد تقديم المعلومات عن بُعد.
مستقبل متعدد الوسائط ومتعدد الوكلاء:
يبدو أن عصر الذكاء الاصطناعي الذي يعتمد على البرمجيات وحدها يقترب من نهايته، وسينتقل الفصل التالي في تاريخ الحوسبة إلى الحوسبة المكانية، حيث تتفاعل الأنظمة الذكية مباشرة مع العالم من حولنا وتستجيب لتغيراته لحظيًا.
لقد أصبحت الأجهزة هي الوسيط الحيوي الذي يتجسد من خلاله الذكاء الاصطناعي ويتفاعل مع العالم، ومع التقارب المتسارع بين تقنيات الواقع الممتد الغامر، والحوسبة المكانية، والأجهزة الذكية المدعومة بقدرات الذكاء الاصطناعي، فإننا نشهد تشكل البنية التحتية للثورة الصناعية القادمة.
وفي هذا المشهد التقني؛ لم يَعد السؤال الجوهري المطروح هو : هل الذكاء الاصطناعي سيندمج مع العالم المادي، بل بأي سرعة وإلى أي عمق سيحدث هذا التكامل؟ ويمثل هذا التقارب المتسارع بزوغ فجر عصر حوسبة جديد كليًا، عصر يتسم بأنه غامر بنحو لم يسبق له مثيل، وذكي ومنتشر في كل مكان حولنا، إذ يصبح الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة، بل شريكًا يعزز حياتنا اليومية بطرق لم نكن نتخيلها من قبل.
تم نسخ الرابط